ثورة التسامح


إذا كانت مفاهيم العدالة في الفترة الانتقالية ضرورية ومنسجمة مع عملية الترميم والتغيير كما يزعم المطالبين بمحاكمة النظام اليوم  ، فأن التمسك بقيم التسامح والمحبة والتآخي لاتتعارض مع هذه المفاهيم مطلقا ولا تتنافى وتعاليم الدين ومبادئ الشريعة الاسلامية السمحا هذا ان لم تكن لتتسبب في اسالة المزيد من الدما وازهاق الارواح وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب وتهديد الوحدة الوطنية.
تبدو الحاجة أحيانا الى تبني مواقف تتطابق مع المشاعر الإنسانية ، وهذه المشاعر التي تجسدها القيم والاعراف الخيرة التي بقيت في أعماق نفوس اليمنيين ، والموروثة ابا عن جد منذ الأجيال  الأولى وحرصت على تداولها والتفاخر بها ، والتي لم تستطع سلطات الموت وتعاقب الطغاة أن تقتلعها من أرواحهم ، لم تزل تعبر عنها في السلوك الجمعي أو  اليومي بين الأفراد سواء داخل القبيلة  أو المجتمع ،

أن اشاعة ثقافة التسامح بين اليمنيين والتخاطب بلغة العقل والمنطق وتفعيل قيم الالفة والوئام بينهم  يشكل مطلبا وطنيا ينبغي التمسك به كعامل مساند للثورة في تحقيق التغييرالسلس  وفي عملية إنقاذ وتخليص الشعب من دوامة العنف والأرهاب والتصدع الحاصل في جدار الوطن والشروخ التي حصلت – ومهما كانت أسبابها – بين القوى الأجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية والقبلية  ، وتلك مهمة تثقيفية وتربوية تضطلع بها ليس فقط مؤسسات المجتمع المدني ونخبه الاجتماعية ، بل و كل القوى السياسية الفاعلة بالأضافة الى المثقفين وثوار الساحات والاعلاميين وكافة افراد الشعب اينما كانوا  . .
أذ تتشكل فكرة التسامح على أساس الاشتراك الجمعي في طي صفحة من الصفحات التي تخللتها حالات الإقصاء وتكميم الأفواه والظلم والتهميش بما يصل الى درجة الجرائم الجنائية التي يتوجب أن يطالها القانون ،، وفكرة التسامح تنبع ايضامن أرادة الفرقاء الذين ارتضوا التنازل عن بعض ماتراه جهة منهم أنهاعلى حق ،
 أن ثقافة التسامح وتعزيزها بحاجة إلى التبسيط والشمولية وإلى أرضية مناسبة تتسم بمساحة من الفضاء الأنساني الذي تستطيع الأطراف المعنية التحرك من خلاله دون قيود أو تحديد ، ، لتكون فاعليتها مع وجود حق التعبير وحق الاختلاف والتحلي بالقدرة على الاستماع للرأي الأخر واحترامه ، فمساحة الحرية تعتبر مساحة مساندة ضمن هذا الفضاء الإنساني المطلوب في ثقافة التسامح من شروط نجاح التجربة الثورية  ومرهون بما يتوفر من قناعة لدى السياسيين  والثوريين قبلهم في البدء بتطبيق ثقافة التسامح والقبول والتعايش السلمي مع الاخرمهما كان وضعه ، وإيجاد صيغ تتسع للجميع من خلال القواسم المشتركة لتحمل المسؤولية بشكل جماعي.
فحين يجد كل طرف أن الحق إلى جانبه ، وأنه يمتلك المشروعية فيما يراه ويتبناه  ، فأن الأمر يدفع بأتجاه  التصادم الطبيعي في الاعتقاد والمطالب  ،و ينتهي الأمر إلى إظهار مغلوبين وغالبين، مهزومين ومنتصرين ، وخاسرين ورابحين ، وتكون النتيجة أنهم حلوا مشكلتهم تلك بكثير من التعصب وبقليل من التسامح ! فيتم الأنسياق غالبا إلى تطاحن وتعارض سياسي وواجتماعي أو خلاف شعبي او ثوري يصل الى حد التناحر، أو الى حرب من أشرس الحروب ، أسوة بالحروب الداخلية للصومال  التي خسر بها الجميع والتي سجلها التاريخ البشري بكل حزن وأسى وادت لتفككه الى دول اعلنت استقلالها ، ولم تتوقف عن تطاحنها منذ سنوات، ولهذا فأن اللجوء الى التسامح وإلغاء فكرة الانتقام والثأر  ، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة العليا للشعب والوطن على النزعات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها .للتوصل الى المصالحة الوطنية تلبية لنداءات الضمير الوطني والحاجة الماسة والملحة لهذا المنهج غير البعيد عن الممارسة الجمعية لليمنيون كما تفرضه الفطرة الإنسانية في الحياة العامة وعملا بماتقتضيه دواعي البناء والتغيير ومرتكزاته الثورية والوطنية  وبالذات في هذه المرحلة من تاريخنا  ، ويتداول  الناس العديد من الأمثلة والأشعار التي تشيد بالتسامح وترتقي به الى مصاف القيم التي يتفاخر بها الرجال ، مثلما قيل في مبادئ التقاليدالاجتماعية أن الصلح سيد الأحكام وان الصلح خير، وفي الآيات الكريمة ما يعززمن قيمة  التسامح والعفو عند المقدرة ، والابتعاد عن العنف و نبذ روح الانتقام ، هذه الثقافة تشكل  ترسيخا قويا لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيدا عن الهواجس وحسابات الخسارة والربح ، هذه الوحدة الوطنية هاجسها أنقاذ الشعب والوطن من التدهور المريع الذي يتدحرجا اليه يوميا في حياة ووضع شائكين لايليقان بهما ، مع بروز نتون وأخاديد تشوه تاريخه الجميل ، وتقلق مستقبل أجياله ، وبالتالي تترك شقوق وخنادق تتعمق يوما بعد آخر بين أطيافه وفصائله التي تشكل جميعها اليمن الحقيقي .
فكرة التسامح تنبع من الضمائر الحريصة على اليمن ووحدته الوطنية والجغرافية واستقراره الاجتماعي ، وهي تتعارض قطعا مع الحسابات المسبقة ، أو النيات غير الصافية ، وأراء المحنة الكبيرة التي يمر بها الشعب ، والتي هي سبب من أسباب ماخلفته دكتاتورية النظام طيلة تاريخه الممتلئ بالأورام والعقد ، وهي تفوح اليوم بروائح ليس من بينها ما تتطابق مع قيمنا الاخلاقية والدينية والانسانية والثورية ،ولنفتح صفحة جديدة في التعامل بيننا عبر  كل المستويات والوطنية والسياسية والشعبية  ، لنتخلص من منظومة الفكر العدمي الرافض للأخر والذي يعيش أوهام البطولات الجامحة ، والانطلاق من حقيقة موضوعية مشخصة وهي إننا في أقصى الهاوية ولا بديل عن السلم الاجتماعي وتكريسه وتشريع المنافذ والممارسات الوطنية التي تحفظ دمائنا وتصون كرامتنا وتحقق اهدافنا الثورية في اقامة دولة مدنية حديثة تستوعب الجميع باقل مايمكن من الخسائر
أن رفض الآخر وتخوينه اسلوب لا زالت تيارات اوحركات وائتلافات ثورية وحزبية ضيقة تمارسه وبشكل واضح هذه الأيام   اللافت أن هذه الممارسة المتخلفة والبدائية لا زالت توزع عبر لغة التواتر القروي أي النقل شفهيا مع أن الجميع بلا استثناء يتناقض موقفه  المكتوب مع ما يتناقله الرواة وفق تراتيبية عن وعن …الخ وهو أسلوب متخلف وبلا أية مصداقية ولكنه يؤثر سلبا في بنية الوعي الشعبي  ويخرجه عن مساره وعن آلية التطور الحضاري ولعل بناء الوعي وتنشيط فاعلية الفكر تتطلب المناقشة بمصداقية الرأي التي تتجسد في امتلاك القدرة على المواجهة العلنية والمكتوبة بالعقل والحجة والمنهج الصحيح الذي يقودنا للبنا بدل الهدم والاحتراب وليس الاختباء خلف التواتر القروي وعقلية المؤامرة المنتهية فاعليتها ،
ها نحن نرى اليوم كيف يراد تحويل الثورة الشعبية من وسيلة للتغيير والتحديث والبناء الى وسيلة للهدم والتخريب من خلال رفع الشعارات الثورية عبر خطاب التهييج الشعبي وثقافة المحاكمة والثأر وعبر طريقة التفكير الانفعالي، التي تحتكم للعواطف وتغيّب دور العقل وتسيطر عليه وتدفع الناس ، إلى حالة من التمترس وتلقي بظلالها على مجمل نتاجات هذه الثورة واهدافها الوطنية العظيمة  مغلبة الجزئي على الكلي ومستبعدة النقد الذاتي ومحتفية بالشعاراتية وإعلاء شأن القوة المجردة وتغييب أرضية الحوار الموضوعي.
وإذا كانت هذه هي مفردات وآليات الخطاب الثقافي الثوري في تجلياته الوطنية فإن تجليات هذا الخطاب على الصعيد الفكري والإبداعي ستبدو أشبه بالفضيحة في ظل تهافت المناهج النقدية وغياب المرجعيات المعرفية،والقانونية  الأمر الذي يجعل من الفوضى قاعدة ومن التغييراستثناء، فيما تصبح الشعاراتية سقف التاريخ والواقع حقيقة عابرة ومنفية.
انا المطالب التي مازال يطرحها بعض الناس بضرورة محاكمة النظام   هي مزيج تمتلئ به العقول والقلوب، وهو مطلب طبيعي قد يؤلف او يباعد النفوس والنصر لمن يملك الدليل والحجة،والشعب اليمني اليوم يملك حجة او رؤية واضحة في المسلك والممارسة لمستقبله تمثلها المبادرة الخليجية ، ولعل هذا هو سر تلاحم وتقارب جميع القوى السياسية في الداخل والخارج في الجنوب والشمال لنبذ التباعد والتنافر والجدل المحموم السابق ما بين جميع الحركات الثورية والقوى السياسية والوطنية   والتي وجدت من مصلحتها الا تضيع الوقت في اتون الصراعات وتأجيج الخلافات العقيمة  مما يجعلها قابلة للانشطار والتشظي .
 ،وحين تغيب قيم التصالح والتسامح الاجتماعي والسياسي والوطني لدى مجتمع من المجتمعات او شعب من الشعوب ويبدأ أهله بأكل لحم بعضهم تزهر ثقافة الكره و ينطفئ نور الحب ، يغدو الوطن مجرد ساحة لزراعة الحقد و تنكمش فسحة الحوار ، لأصير أنا على حق و البقية حكما على باطل ، فيتحول البلد إلى مجرد مساحة في الجغرافيا لا مكانة فيها و حيز من التاريخ لا قيمة  له
بخطاب التسامح  نربي الجيل الجديد على قيم الالفة والوئام ونلغي من قواميسهم نوازع العنف والثأر.. ونؤسس لثقافة السلم الأهلي. فهلا وجدنا سببا واحدا يكفي لنشرع بخطاب التسامح اليوم بين فئاتنا وقوانا السياسية وبيننا جمعيا 
هلا توجهنا للتسامح كوننا جميعا نملك الخطأ والصواب ونحتاج للمغفرة والمسامحة وإن اختلفت نسب كفتي موازيننا من الخير وخلافه؟ هلا رفعنا العقدة من المنشار لنركز جهودنا في العمل بدل التوقف في دائرة الخلاف الفردي وتصفية حسابات الانتقام الذي نسميه تقويم الإعوجاج خطأ؟ هلا انتبهنا على أن الانصراف لقضايا الثأر أو التركيز على تعنيف المخطئ وإلغاء خطاب التسامح هو طعنة في مقتل لوجودنا جميعا المخطئ والمصيب؟
أليس من الرحمة والرأفة أن نحيا بمعالجة الخطأ وتجنيب المخطئ مشقة تكراره ومشقة عناده في ركوب الرأس بسبب من خطاب التعنيف فيما خطاب التسامح بين أيدينا حمامة سلام ووئام؟
ألا فلنُقـْبِل على بعضنا بعضا بروح من الثقة والمسامحة.. ولنجعل من علاقاتنا علاقات مودة وإيجاب في الشأن الفردي وفي الشأن الجمعي من منظمات وتيارات  وجمعيات وحركات وفئات وأطياف سياسية ووطنية واجتماعية وثقافية ووطنية مختلفة ...
ــــــــــ 

تعليقات