ثمة رابط ما بين تصور الشعوب ونخبها السياسية لواقعها والآليات الفكرية والممارساتية التي تنتهجها لتغيير هذا الواقع من جهة ، ورؤيتها عن ذاتها وتاريخها من جهة أخرى،فبعض الشعوب مشدودة لتاريخها المتخيل لدرجة العيش في الماضي على حساب الحاضر، وشعوب آخرى مشدودة للحاضر حتى وإن تفارق مع تاريخها،والفيصل بين الحالتين لا يعود لتباين الشعوب من حيث عراقة وعظمة تاريخها بل لعقلانية وواقعية النخب السياسية والاجتماعية الراهنة وقدرتها على التعامل مع الواقع .
فبعد سنوات من اليوم سيصبح الحاضر ماضيا أو تاريخا مكتوبا أو شفهيا و سيتساءل الخلف من صنع هذا التاريخ المشين ؟ آنذاك ستواجههم مقولة (إن الشعوب تصنع تاريخها) وهي مقولة صحيحة .فنحن اليوم نصنع المستقبل السيئ الذي سنيعيش وسيعيش فيه أبناؤنا وأحفادنا كما أننا اليوم نتحمل وزر أخطاء السلف ووزر تاريخ سياسي واجتماعي ما زال حاضرا فينا ويشكل قيدا على حركة نهضتنا وتقدمنا.أن تصنع الشعوب تاريخها يعني أنها تصنع حاضرها ومستقبل أبناءها، فالحاضر هو مستقبل الماضي كما أنه ماضي المستقبل.أن تصنع الشعوب تاريخها يتضمن حكما إيجابيا وحكما سلبيا في نفس الوقت على الشعوب من حيث مسؤوليتها عن تاريخها وبالتالي مصيرها،حكما إيجابيا إن أخذت الشعوب ناصية الأمور وكانت المبادِرة في تحديد مصيرها وبناء حضارتها وقطعت الطريق عن الغير للتدخل في شؤونها الداخلية،في هذه الحالة ستصنع الشعوب حاضرا زاهرا و تاريخا مشرفا للأجيال القادمة ،أيضا تتضمن المقولة حكما سلبيا على الشعوب ،ذلك أن الشعوب الضعيفة والمنقسمة على ذاتها وفاقدة الإرادة تفتح الطريق أمام الغير ليوجهوا أمورها ويحددوا مصيرها وبالتالي يصنعوا حاضرها وتاريخها ،وفي هذه الحالة أيضا فإن الشعوب وخصوصا نخبهاالسياسية والثقافية تتحمل مسؤولية هذا التاريخ الذي سينسب لها حتى وإن صنعه لها الآخرون .
اعتقد أن أمام الشعب اليمني الآن طريقين واضحين، وهذين الطريقين مرتبطين بالموقف من الثورتين المتداخلتين بطريقة يصعب تفكيكها، فقد تكون الصعوبة في الحالة اليمنيةهي في كون الثورة الأساسية الشعبية والمضادة لها قد انطلقتا في الوقت نفسه، بل انهما تتواجدان في الساحة ذاتها وتحملان الشعارات الشعارات ذاتها ايضا وبالتالي نعتقد أن أمام الشباب مسؤولية تاريخية الآن، في تلمس مسارهم الذي يحدد اتجاه التحول الذي سيسيرون عليه، وفي اتخاذ الخيارات المناسبة، وربما من المفيد التوضيح أن تحديد الخيار المناسب سيحدد موقع كل من الثورتين وسيحدد مستقبل اليمن لسنوات طويلة قادمة، فإما أن نساهم جميعاً في ترسيخ حالة التآكل التدريجي التي دفعنا إليها، أو أن نرسم مسار خروج من الآزمة نحو يمن حرقوي قادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، وتكمن الصعوبة بعد اتخاذ القرار المناسب في إيجاد تلك الطفرة التي تقودنا للخروج من دوامة التآكل الحالية، والتي نعتقد أنها ليست بالبساطة التي يتوقعها البعض، فالخشية من أننا كلما تآخرنا في اتخاذ القرارات الصحيحة والصائبة ، يصبح الخروج أصعب، وذلك في ضوء وجود نافذة زمنية محدودة، ومالم نتمكن من تجاوز تحدياتنا والعبور إلى عملية تغيير عميقة وجدية، فنعتقد حينها أننا سنصبح في منطقة الخطر.
كل يمني حر يجب ان يعمل على وقف نزيف الدماء في اليمن، كل يمني حر يجب ان يؤكد في هذه اللحظة حرصه على الوحدة الوطنية وعلى مستقبل الشعب عبر وقف المؤامرة التي يحيكها النظام ضده وضد الثورة ، والمطلوب من الجميع واولهم المعارضة وثانيهم المعتصمون والمتظاهرون ان يعملوا وبمسؤولية عالية لوقفها فلا بديل عن المبادرة الخليجية وما دام الشعب قد وافق على هذه المبادرة فلماذا تقوم بعض الائتلافات في الساحات بالعمل على إفساح المجال لتدخل دولي عسكري خارجي على غرار ماجرى في ليبيا ولعل ذلك لن يحدث في اليمن وهذه هي المشكلة الاكبر التي ستواجه الشعب برمته خصوصا حين تكون جماهير الثورة هي مصدر الرفض للمباردة الخليجية في اللحظة الاخيرة ...
مازالت اليمن كماكانت على الدوام هي الضحية... ضحية لسياسات الاستبداد والانفراد السلطوي والقمع ا لكل الاصوات المعارضة اوالمنادية بالتغيير ، ومازالت ضحية لسياسات الصراع والتحارب بين أطراف الثورة ككل، من داخل وخارج الساحات بما فيها الحركات والائتلافات والمجالس الثورية وتنسيقيات متبعثرة ومتباعدة،، هذا التحارب الذي نلمسه يوميا على صفحات الانترنيت وفي تصريحات بعض المعارضين وفي نقاشات الشباب بالساحات وتفاعلاتهم اليومية ، كما ان الكثير من الأقلام الصفراء أخذت تمتهن مهنة التنبيش في الملفات وفتح السجلات القديمة للبحث عن أية صلة ولو من بعيد لهذا المعارض أو ذاك بالسلطة والنظام، من أجل الإيحاء للرأي العام والمعتصمين في الشارع بعمالة هذا التيار أو خيانة ذلك المعارض،
إن زمن قذف الآخرين بتهم الخيانة والعمالة يجب أن ينتهي، ويجب أن يتم احترام كل الآراء ما دامت تهدف إلى التغيير المنشود نحو وطن حر كريم يقبل الآخر ويحترم رؤاه، وعلينا أن نتذكر إن التغيير في ليبيا وتونس ومصر أبقى على الكثير من الشخصيات التي عملت في مراكز سيادية عند تلك النظم، بل أصبحت تلك الشخصيات أساس بناء الدولة الجديدة، لان من يطمح إلى الانتهاء من زمن الإقصاء والاستفراد عليه ألا يقصي أحدا ولا يصادر رأيا، فإذا كنا اليوم نتصارع على الثوري ، والوطني والمتخاذل، ونحن ما زلنا بعيدا من التغيير فما ذا سيكون مصير هذا الوطن غدا حينما يسقط النظام وتبداءعملية توزيع المهام والمناصب، وأي توافق سيبنى بيننا فيما نحن لا نتقبل بعضنا البعض، ثم أية ثورة هذه التي لم تتفق بعد على شكل التغيير وطرق الوصول إليه، وعلى شكل الدولة المستقبلية ومبادئ دستورها القادم.بالمبادرة الخليجية وحدها دون غيرها سنبرهن للاخرين قبل ان نبرهن لانفسنا عن اي حكمة تلك الي وصفنا بها رسول العزة والتكريم محمد بن عبدالله الصادق الامين صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بالخير والهداية للامة وسنقطع بذلك الطريق امامهم للتدخل في شؤننا كما سنسقط عليهم مبررات وذرائع قيامهم بالمهمة بدلا عنا, وكي لاتظل دعوة الاجداد حين دعوا الله على انفسهم ان يباعد بينهم وبين اسفارهم كما باعد بين المشرق والمغرب لعنة ماضية فينا وسنة مكتوبة علينا جيلا بعد جيل وامة بعد امة ...فدعونا هذه المرة نتبرأمن ظلمهم ونتحرر من وبال دعوتهم ..
حتى يكون بإمكان الثائر أن يحمل الأمانة الملقاة على عاتقه لا بد أن يكون ابن المرحلة التاريخية. يعني يجب أن يكون من الناس ومعبرا عنهم أوالأغلبية منهم وليس ساقطا علينا من كوكب او من الملائكة. الخبيث لا يقيم في أمة من الطيبين، والطيب لا يعمر في أمة من الخبيثين. فلا بد من أن نرتقي ونسمو إلى الدرجة التي نطلب فيها من الحاكم أن يكون عليها، وهذه هي مهمة أصحاب الوعي والفكر الذين يسبقون زمانهم ويمهدون الطريق نحو تغيير يشمل مختلف نواحي الحياة
ما حدث في مصر مؤخرا من صراع بين المعارضين ورشق بعض المتظاهرين لممثلي هيئة التنسيق بالحجارة، إنما يعكس صورة لما يمكن أن يحصل عندنا في المرحلة القادمة فمجرد عدم قبول الآخر يعتبر بحد ذاته جريمة، فإذا كنا اليوم لا نقبل بجزء مختلف من المعارضة وبآرائها، فما الفرق بيننا وبين السلطة المستبدة، وكيف سنتقبل غدا كل هؤلاء الصامتين والجالسين في بيوتهم والمحايدين، بل حتى بعض المستفيدين من النظام، هل سنبيدهم جميعا،أم نعزلهم جميعا ونقيم الحجر عليهم،ونحاكمهم كلهم ونطبق عليهم عقوبة الاعدام ,والمسألة تدار بهذه الطريقة فاعتقد إن الشارع لن يكسب المعركة وان كسبها فستكون على سيل جارف من الدماء.
عندما تمر المجتمعات بأزمات تاريخية مريرة، تزداد فوضى القيم، ويطغى الجهلاء، ويسكت العقلاء، ويعوي المتعصبون، ويختفي الأحرار الحقيقيون.. وتقبض أنفاس الحياة من قبل المهووسين بالفتنة وزراع الأحقاد وناشري الكراهية بين الناس.. ويتسامى الكبار أمام شراسة وبذاءات الصغار الذين لا يعرفون في قاموسهم إلا الشتائم والطعن والقدح.. ويا ويل المثقفين إن نزلوا وجادلوا الجهلاء والمتخلفين والحمقى والسفهاء ..نحن في اليمن نعيش فوضى قيم عارمة.. المثقفون الحقيقيون أصبحوا قلة،، وفي مجتمع يأكل بعضه بعضا.. بل ويريد البعض أن يتسلق باسم الثورة على الأكتاف، وهو يبحث له عن مكان تحت الشمس، فلا يجده أبدا، كونه لا يؤمن بالإنسان .. والإنسان في اليمن متنوع تنوع الأشجار فلا يمكن أن يعيش اليمن لا على فوهة بندقية، ولا في شرعة غاب، ولا على هامش حزب واحد، ولا في عرف مذهب واحد،
إن قياس حياة اليمنيين، لا يمكنها أن تتم بمعزل عن اتساع الرؤية، ، وتمدن الفكر، وانفتاح الناس بعضها على الآخر، كي يتقبل اليمنيون بعضهم بعضا.. . إن الحرية او بمفهوم اشمل الثورة ليست هي الفوضى والشتيمة كما يفهمها البعض، وان النقد ليس هو التنكيل وتشويه سمعة الناس وكيل الاتهامات الباطلة، بل هو المواجهة والتصويب والضمير الحي..كما ان الأخلاق ليست هي العادات السقيمة والانغلاق في الأقفاص او خلف الجدران المعتمة، الأخلاق هي كيف تتعامل مع الناس.. كيف تخاطبهم، وكيف تتصرف معهم، وكيف تحترم الآخر وإرادته وخياراته.. وكيف تكون أمينا على الارواح .. وكيف تصون القيم ومصالح الشعب .. ، وكيف تتعايش مع جيرانك بكل محبة. الثورة لا تعني مهاجمة الاخرين ، بل تعني أن لا تسئ التصرف، ولا تزرع الفتنة، ولا تثير الأحقاد ولا تعلن عن روح الانتقام ضد الناس الأبرياء، بل ضد كل المدانين بجريمة او جنحة ليحاكموا ويقتص منهم.
ولعل من أسوأ ما تتربى عليه الأجيال أن تمتلئ عقولها بالتحيزات وتتشبع بالأهواء..وتتربى على هوس معين، أو فوضى لا أخلاقية - في حين يتطلب منا الأمر عكس ذلك كله، وخصوصا في اليمن الذي يعيش اليوم صراعا عميقا بين تمرد الأهواء والعواطف وبين تحكيم العقل ، بين الحيادية وبين التعصبات، بين الوطنية وبين الانتماءات القبلية بين مشروع حضاري وبين فوضى الولاءات. إن الفجيعة تكمن ببعض المروجين السياسيين، وأنصاف المثقفين الذين ينطلقون من الابواب القبلية او المناطقية اوالمصلحية المقيتة ضد أناس أحرار، إن المتعصبين إلى لون معين، أو ثقافة معينة او مصلحة ذاتية ،.. بعيدا عن روح الحريات ومعانيها، لا يعرفون إلا رؤيتهم الضيقة جدا للحياة والأمور، فالثورة عندهم كارثة! وهي رؤية لا تقتصر على الناس العاديين، بل تنتقل وبفجاجة لا نظير لها إلى بعض المثقفين والساسة والنخب المتماهية مع هذا ضد ذاك أو ذاك ضد هذا.
في مثل هذه المرحلة من انطلاق الفوضى العارمة بفعل هذا التداخل المتناقض في الثورة تتكشف "حقائق" لم تكن ظاهرة على السطح سابقا بفعل االحرمان والفقر والتهميش ومدى الظلم ومساؤئ الماضي في حين تحولت الآن الاوضاع الثورية من تكوين مناخات لحريات صحية إلى فوضى قيمية وكتابات لا أخلاقية وتسفيه مصلحي .. إنهم منقسمون بشراسة ليس إزاء تاريخهم، بل إزاء وجودهم ، وكأن احدهم يريد محو الآخر وإنهاء وجوده.. جماعة ترى في المجتمع كل القتل والعنف وحب الدماء منذ القدم حتى وصل الأمر أن يوصف كل اليمنيون بأوصاف رديئة ، وأنهم بحاجة إلى فاسد او مستبد ليحكمهم، وآخرون يمجدون ويتفاخرون بهذا الشعب العظيم الذي لا يمكن أن نجد مثله أبدا في كل الدنيا وفي كل الوجود،
وبالتوقيع على هذه المبادرة فإن جيلا ملوثا كاملا سيعلن الرحيل بعد انبثاقه في عصر الفساد وكان ولم يزل لا يرى في تاريخ اليمن إلا نفسه من دون أية رؤية واسعة للحياة وللتاريخ وعوامل متغيرات الحياة..
إن ثمة متطفلين على واقع الثورة وساحاتها من هذا النمط الذي لا يريد سماع كلام كهذا، بل يصمت إزاء حالة ويثرثر في حالة أخرى..تجدهم لا يتحملون أي رأي مخالف، فان انتقدنا أية ظاهرة من الظواهر السالبة، نصبوا أنفسهم محامين او قضاة من دون أن يعترفوا أنهم يساهمون في الجريمة كونهم لا يعترفون بما يقترفون من أخطاء وجرائم.
إن المتطفلين على الثورة لا يختلفون في تعصباتهم عن النظام وتابعيه والمنتفعين منه الذين لا يرون في اليمن الا يمنهم وحدهم من دون الناس وليذهب الجميع إلى الجحيم، ومن المفجع أن تكتشف خواءهم الثقافي قبل أن يفضحهم عريهم الثوري !.
إن تناقضهم مفضوح تماما، فهم ساخطون على الاحزاب وعلى الأحرار من المثقفين والاعلاميين والسياسيين، ولكنهم يمجدون شعار الثورة ويتكلمون باسمها! إنهم ساخطون على المجتمع، ويمارسون نفس آليات الإقصاء للآخرين
لقد اسهمت الثقافتان القبلية والاستبدادية معا في اشاعة ثقافة الفكر الواحد والرأي الواحد والجمود والتهميش،واحتقار المواطن االعادي ثقافة الفساد وآليات انتاجه،ثقافة سيادة عبادة الفرد وتأليه الطغاة،ثقافة القطيع والرعاع،ثقافة الولاءات دون الوطنية،ثقافة "حاضر يافندم"،ثقافةالشمولية،الثقافة الانتقائية النفعية،الممهدة للثقافة الوحشية!ثقافة الموت والقبور،ثقافة الموروث الالغائي التخويني التكفيري المستمدة من نظم تعود بجذورها الى قرون طويلة من القمع والاجرام وتدمير المجتمعات،فدخلت ثقافته الى النخاع وامتزجت بالمقدس لتصبح كل موبقاته مقدسات بمرور الايام.انها ثقافة عناكب الشك والحذر وقيم النفاق والغدر والتآمر والاغتيال والانانية ولوائح تطول وتطول من الحلال والحرام،ثقافة الانتقام و القمع!.ومهما اختلفت الاسماء والجماعات والميليشيات القبلية والمشائخية وتعددت يبقى مجال عملها واحد،هو استبدادالناس والحد من حريتهم والانتقاص من اخلاقهم والاعتداء على اعراضهم.