لم يعد الحل في اليمن مرهوناً بأي بديل آخر عن الحوار الوطني وهذا ما ينبغي أن ندركه ونقر به ونستعد ونتهيأ ونحضر أنفسنا له منذ الآن، أما الذين يراهنون على البقاء لأطول فترة ممكنة في الساحات كبديل عن الحوار فإنما هم أولئك النفر الذين سبق وأن أشرنا في الجزء الأول المنشور سابقاً في الصحيفة من هذا المقال إلى أنهم لا يبالون ولا يفرقون بين البداية والنهاية...بين النقطة التي ينبغي أن ينطلقوا منها وبين تلك التي يجدر بهم أن يحذروا ألف مرة ومرة من مغبة الوصول إليها, فكيف لهم أن يبدأوا السير منها لينتهي بهم المشوار أو المطاف عند نفس نقطة الانطلاق التي كان عليهم أن يبدأوا منها هذا إذا كان من المحتمل بعد ذلك أن يصلوا إلى نقطة يمكنهم الانطلاق منها مجدداً ولم يفقدوا طريق العودة إليها في متاهات التشرذم والتقهقر والاحتراب, أو عقدة أخرى.
إذ ليس من المنطقي ولا من المقبول أبداً أن نصل للحوار أو نقتنع به أو نعود إليه لحل مشكلة ما أو أزمة تعترضنا بعد أن يقع المحذور أو بعد أن نستنفذ ونستهلك كل الخيارات والبدائل الممكنة الأخرى التي نملكها أو التي كنا نملكها، أقصد أنه ليس من المعقول على الدوام أن نجرب كل الخيارات التي لا ينبغي أن نجربها أو حتى نفكر فيها لمعالجة معضلة ما من معضلاتنا الوطنية قبل أن نبدأ بالحوار كخيار أول وثانٍ وثالث ورابع....وأخير لحلها والتفاهم عليها,,ولا يجب بأي حال من الأحوال أن نلتف حول موائد الحوار وكل واحد منا يشعر بالقوة والزهو والأنفة، لأنه يمتلك بدائل أخرى تغنيه عن الحوار وتعفيه من ضرورة الجلوس في مجالسه وان جلس مع من يجلسون فيها فلكي يمارس أساليب الضغط والمراوغة والابتزاز وأملاً الشروط عليهم لا اقل ولا أكثر. بل يجب ان نجلس خلف طاولات الحوار بنية التحرر والتفاهم حول سبل وأساليب التخلص منها والتنازل عنها..وليس على الضعيف منا ان يتنازل بما لديه للقوي بيننا او ان يمتثل له ويخشاه الا بالحق..لان القوي فينا كما ينبغي أن نعتبره ونتعامل معه وننظر اليه هو من يحوز على الحجة والقرينة والرأي السديد ومنطق الإقناع ومرونة التفاهم والاستعداد للاستماع والإصغاء والقدرة على إشاعة طقوس الألفة ومشاعر الثقة والطمأنينة في نفوس الآخرين وهو الذي يجيد فنون التخاطب والتواصل معهم بكل شفافية ووضوح وتواضع..وهو من لا يمل ولا ييأس ولا يتذمر من الحوار مع الآخرين ولا من طبيعة المشكلة التي يتحاور بخصوصها معهم ولا ينتقص من قيمة كل واحد بينهم أو يقلل من أهمية آرائهم أو يتجاهلها,وهو الرجل الذي يزداد إيماناً بالحوار مهما كانت النتائج كلما تعثر فيه أو اصطدم بمن لا يفهمه أو يقدر جهوده أو يبالي بقوله منهم...والرجل في هؤلاء ليس هو من لا يكف لسانه ولا يتوقف بيانه ليس بالحوار أو في التحاور بخصوص قضية ما بل عن الحوار ذاته والدعوة ذاتها للتحاور ولا يتردد في كل منبر من المنابر السياسية والفكرية والثقافية وفي كل محفل من المحافل السياسية والاجتماعية والوطنية في التعبير عن رأيه حول الحوار وأهميته وقيمته الحضارية والإنسانية كمنهج ثقافي لإدارة الخلافات ومعالجة المعضلات وتقريب المسافات وإزالة الحزازات والاحتقانات بين أفراد المجتمع وتشكيلاته المختلفة وعن ضرورته وحاجتنا الماسة إليه باعتباره الأول والأخير الذي ينبغي أن نتمسك به ونفرضه كثقافة وسلوك عام في بيئتنا كما يزعم بجميع جوانبها ثم لا ينفك أن يغلق أبوابه ومنافذه دونك ويضرب على نفسه طوقا منيعا الحواجز كي يتفادى الحوار معك ولا يكون طرفا فيه إذا ما سعيت للحوار والتفاهم معه حول قضية مما يخصك أو يخصه أمرها أو يتعلق بآخرين دونكما فلا يستمع إليك ولا يسمعك رأية فيها ويبخل عليك حتى بالنصيحة حيالها حتى وان كانت قضية شخصية فليس لرجل كهذا أن يكون واحداً من أولئك الرجال الأقوياء الذين أشرنا إليهم..ومثله رجل آخر ينصت إليك ويستمع لحجتك ويقتنع برؤيتك ويقر بصواب موقفك ويؤيد رأيك ثم لا يجد في نفسه حرجاً حين يخذلك وينصرف عنك دون أن يكلف نفسه عناء الرد عليك ويتحول بلا سبب مذكور أو دافع واضح إلى جزء من المشكلة التي يمتلك حلها بل يضيف إليها بدلا من ذلك عقدة أخرى فيزيدها تعقيداً...
فالرجال الأقوياء الذين قصدناهم هنا هم أولئك الذين لا يكتفون بالدعوة للحوار فقط ولا يتوقفون عند تعظيم قيمته الحضارية ويؤمنون بأهميته كمنهج إنساني راقي لحل الخلافات والمشكلات البشرية مهما بلغ مستواها في العالم دون أن يمارسوه كسلوك عملي في واقع الحياة بدءا من الأسرة التي ينتمون إليها مرورا بالمحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعيشون فيه ويحتكون به وانتهاء بالمحيط الوطني والقضايا السياسية التي يعالجونها على ارفع المستويات....هؤلاء هم أباطرة وفقها وأئمة الحوار ودعاته..إذ يقولون ما لا يفعلون بل يفعلون نقيض ما يقولون..يتكلمون بحديث أهل الجنة ويعملون بعمل أهل النار...فهل للناس أن يستجيبوا لهم ويهتدوا بهديهم ويتبعوا دعواتهم أم يقتدوا بما يناقضها ويخالفها من أفعالهم وسلوكياتهم على أرض الواقع؟...
إننا اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى جهود حقيقية لتعميق وتجذير ثقافة الحوار في المجتمع ونبذ كل ثقافة استئصالية لا تؤدي بنا إلا إلى المزيد من التعقيد والاحتقان..لذلك كله يجب أن نحتفي بكل مبادرة وطنية للتواصل والحوار والتفاهم،,ونتطلع لان تترجم لغة الحوار والتسامح والسلام بين كل كياناتنا السياسية والثورية والمذهبية والتقليدية في هذا المؤتمر الوطني ويخطئ من يتعاطى مع مثل هذه المبادرات بعقلية المهزوم والمنتصر والخاسر والرابح والغالب والمغلوب، ذلك لأن الوطن كله هو الرابح حينما تسود لغة الحوار وتتكرس أعراف وتقاليد التواصل والتفاهم بيننا..
إن طبيعة التحديات الداخلية والخارجية التي باتت تحيط بنا من كل صوب في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به الشعب تدعونا جميعا إلى ترسيخ خيار الحوار والتواصل في مناخاتنا المحلية باعتباره الطريق الحضاري الأمثل لتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية وتمتين علائق الجبهة الداخلية وتجاوز المخاطر التي تواجهنا في مختلف مناحي الحياة.. من هنا يمكن القول أن الحوار الوطني لا يستهدف فقط التعارف بين فقها المجتمع ومذاهبه السياسية والاجتماعية والدينية والوطنية والعسكرية المتعددة وإنما يستهدف علاوة على كل ذلك صياغة برنامج وطني متكامل يتبنى العيش المشترك والسلم الأهلي واحترام حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وتطوير أسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية, إذ كيف يمكن أن يتعمق خيار الوحدة الوطنية في مجتمع تتعدد فيه المذاهب والطوائف والتكتلات الحزبية والسياسية والقوى والحركات الوطنية ومطالبها المختلفة ؟.
إن ما تشهده الساحة الوطنية من أحداث وتداعيات في العديد من مناطق البلاد يجعل الحاجة لحوار وطني بيننا ضرورة حتمية باعتباره الخيار الوحيد الذي نملكه لترسيخ مشروع التفاهم الوطني ومبدأ التعايش السلمي بيننا لأنه سبيل تنقية الحقائق والوصول إلى صيغ مشتركة لمصالح الجميع وطريقنا للحفاظ على مكتسبات الشعب الذي عانى ومازال يعاني من ويلات التعصب وسؤ الظن والنوازع الاستعدائية والعقليات المتعجرفة التي تساوي بين مصالحها الشخصية وبين المصالح العليا للشعب والوطن أن لم تغلب الأولى على الثانية وبالحوار في مساحات الوطن يتكامل منطق الاختلاف مع منطق الائتلاف والاعتراف وصولاُ إلى تثبيت قاعدة اجتماعية جديدة تتجه نحو التطلعات الكبرى للجماهير وحتى نصل في سعينا إلى المستوى الأخلاقي المطلوب منا لممارسة الحوار كثقافة بعيداً عن المقدمات الشكية أو المواقف والأحكام الجاهزة والمسبقة، فنحن بحاجة إلى نبذ الذات ومجاهدة النفس وهزيمة الأهواء والنزوات الضيقة والتجرد من كل نوازع التطرف الأعمى والسعي الحثيث للاقتراب من الآخر وإشاعة الثقة فيه ومحاولة فهمه بصورة مباشرة كي يكون الحوار في الداخل هو الأصل والثابت الذي لا نشذ عليه مهما كانت المعضلات التي تحول دون ذلك ومن الضرورة بمكان وعلى كافة المستويات والأصعدة أن لا تدفعنا تبايناتنا إلى الفرقة والقطيعة والتنافر والجفاء وإنما ينبغي أن تظل هذه التباينات سبباً ومحوراً لمزيد من الحوارات العميقة لا لكي نفرض قناعاتنا أو نتنازل عنها بل كي نطلع على وجهات نظر بعضنا البعض وكي نتمكن من معالجة علل وعوارض الاحتقانات النفسية التي تصاحبها فكريا وسياسيا وكي يتم تفعيل دور القواسم المشتركة بين الجميع..
تعليقات