لم يعد ميزان الاشياء صافيا ولا عادلا ، فقد اختلطت الامور، وتداخلت مساحات خطوط المصالح ، وتباعدت قواعد النظريات والثوابت والالوان الحمراء ، والحوادث والأحداث المأساوية التي شهدها المجتمع خلال السنوات الماضية منها المرعب والعجيب والمريب والمفزع ، ومنها المركب مع سبق الاصرار والترصد، ومنها الاحداث الروتينية التي تدونها دفاتر اليومية والتي تزداد مع تكاثر الناس
لم يعد المفسد، ذلك الانسان المرفوض في مجتمعنا ، لانه شكل اغلبية الفاسدين الكاسحة ، في السياسة والادارة العليا ومراكز القرار ، وأخذ رخصة التمكين التي تضمن له الدخول الى اي مواقع من غير تكلفة ولا كبير عناء ، ان شخصية الفاسد الغني في هذا العصر اصبحت نموذجا للاحترام ،، الفاسد الان هو الذي يتقدم الصفوف ، والاجدر بقيادة المجتمع ، وهو الاجدر بقيادة المثقف ، وهو الذي يتفوق بالحماسة والنشاط والتلون وخداع الكبار
المواطن اليوم لا يسيء فهم هذه الكلمة ... الفساد ... التي نرددها كثيرا فحسب ، بل انه في الواقع لم يفهمها جيدا في اي يوم من الايام ، لقد دخل المصطلح الى قاموسنا العامي بمثابة ترجمة لكلمة ،، الخراب ،، في لغات اخرى ورسخ في ذاكرة مواطننا بهذا المعنى الضيق الذي فسره الأديميون ، حتى ان المرء ، لم يعد يرى فيها شيئا مختلفا ما يجعل مراجعة هذا الخطأ ،، لكن الفساد ليس هو ... الخراب... المنسوب للأمة التي هي على اصل ولادتها لم تتعلم الاصلاح ،، ولا شك ان هذه المسلمة البديهية نتيجة غير مفاجئة في الاستنتاجات المعاصرة ، انه لا يتمثل في الخراب ، الا بقدر ما يتعلق بمرض السل ، وهو مرض يصيب الرئتين ومرض معدي مع قليل من السعال ، واذا قالوا ان الانسان قد يسعل لمئة سبب اخر غير اصابته بالسل ، فسوف ترى ان تشخيصك للمرض غير واقعي يبدو ساذجا الى حد كبير
ان المنهج الحديث في دراسة المشكلة ، يسلك مسارا مختلفا ، ويوصي بعبور لعبة الخانات المجهولة لايجاد زاوية رؤية الصواب من مكان اخر ، ورؤية الصواب بسيطة الى حد لا يصدق ، ان الفساد ليس الا بطاقة دعوة مفتوحة للفقر والمرض والتخلف ، بل انه في الواقع ،، الترجمة الوحيدة الممكنة ،، لمعنى هذه الكلمات معا ، كل ما في الامر ( لا مصيبة اعظم من الفساد ) واذا اتفقنا هنا من جانب ثاني ، ان الفقر ليس عيبا نخجل منه ، ولا الفقر ينتهي بمجرد الاقتناع النظري وحصولك على كمية كافية من المال ، بل ينتهي فقط اذا كانت الاوراق المالية مقبولة في السوق ، واذا اتفقنا على ان المال لا يقاس بما يملكه المرء ، بل بقيمة ما يملكه المرء ، واذا كنت لا تقراء الا ما يعجبك فقط ، فسوف تجد بنفسك ، ان الفساد ايضا لا يقتصر دوره بمجرد قدرتك على الصمت ، بل يقتصر فقط اذا عرفت حقا سواء عن طريق القراءة او عن طريق الخبرة والمعايشة ، والمشكلة بالضبط ان كل فرد يعتقد جازما انه صالح ، اعني هذه طبيعة المتغيرات في هذه اللحظة المريعة ، فالفساد لا يملك سوى تبني علاج واحد اسمه الاصلاح
ان الفساد ، هو من اقوى عوائق المعرفة والحضارة والتقدم ، واشد موانع حالة النهوض ، وهذا شان لأكبر عدد من الناس في الكثير من المجتمعات ، انه يندمج تماما مع الجهل بحسبانه هو الصواب ، وفي هذه الحالة لا يكون المرء فاسدا فقط ، وانما بينه وبين وضوح الحقيقية الكثير من الحواجز النفسية المانعة تصده عن البحث ، وتمنعه من مبدأ المراجعة ، وتقنعه بسلامة ما هو مقتنع به في ذهنه ، ان المشكل ليس في وجود الفساد وانما في الاصرارعليه ، لان المفسد قد يحسب فساده صلاحا، يريد ان يبقى على فساده ، بل يواصل التمسك بالرأى والتعصب له بدون وجه حق ، وبذلك فان الفساد ، من اكبر المصائب التي تصيب بني البشر ، واشدها تبديدا للثروات اللطاقات الانسانية والاقيصادية والمالية ، واكثرها ضررا وسببا لسوء الفهم والقتال والصراعات الفردية والجماعية ، الفاسد تصعب السيطرة عليه لحظة جنونه ، بخلاف ما يعتقد الكثيرون ، وانما هو بنية شديدة التعقيد والصلابة ، ان الناس في الغالب يتعاملون مع الفساد بوصفه مشكلة فردية متطرفة نادرة تعتري بعض الناس او المسؤلين، بينما ان الفساد هو الاصل في التكوينيات الثقافية التي لم تخضع للتمحيص والتحليل والمراجعة ، وهنا فرق شاسع ، بين ان يتم التعامل معه بشكل موقت عرضي فردي وعابر ، وبين ان ينظر اليه نظرة سلبية ، تظهره كمشكلة انسانية او كمنهج لحياة الساسة والموظفين او كنظام لادارة شئون البلد برمتها,ان كل ظواهر القتل والخطف ومظاهر الفوضى ، و الانفلات والتمرد على القانون ، وجنون في تنفيذ العمل الاجرامي وسيناريوهات التزوير والغش والخداع وسرقة المال الخاص والعام ، والقفز فوق الموانع ، هي النتيجية الطبيعية والحتمية، للفساد الواضح والمتخفي ، الذي اتسعت دائرته على الساحة الوطنية ، واتخذ لنفسه موقعا مميزا ، سد به فراغات الورع والاخلاص والزهد والايثار ، وغيرها من صفات الخير المخبوءة في وجدان القلة القليلة ، لقد صارت ثقافة الفساد بعبعا رهيبا ، طالت نيرانه وشظاياه الشعب كله ، واصبح يفعل هذا التعميم ، مطبعا معذورا مقبولا ومشكورا
في ظل الفساد ، تنمو التفرقة القبلية، والمذهبية الدينية ، والتنكر لحقوق الناس ، هي نتاج افرازات الافكار الظلامية التي تنمو في المجتمعات الفاسدة ، والمؤسف هو ان الاحزاب الحاكمة والمعارضة لم يتوصلا على صيغ للتعاون وايقاف التدهور الحضاري والاجتماعي والاقتصادي المالي ،، ووضع حد للفساد الاداري ،، ونهب الثروة الوطنية ( تهريب النفط والغاز والبضائع والرشوة واهدار الثروات والمنجزات الوطنية مقابل العمولات ) وايقاف قتل واهانة المواطن الذي يشكو من الجوع والبطالة والظلم والغلاء والفقر,,,ولا يستطيع احد ان ينكر نفوذ الفساد وتأثيره في مجتمعنا ، فهو بائن لا يحتاج الى بحث ، متواجد في جميع الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية ، ويشكل حضورا في المحافل ويلقى تشجيعا كبيرامن الساسة والمسؤلين والمثقفين ، كل ما يتحسس الانسان موقعا ، او يضع اقدامه على باب وزارة او دائرة او مؤسسة ، وجد فاسدا بكل ما تحمل الكلمة من المعاني، نافذا فيها ولا كل الرجال مسموع الكلمة ، يتحدث بلسان اولى الامر ، ويلتقي استجابة فورية ، يقف امامه امكانية المفسدين على الاختراق والوصول ، يجعلنا نؤمن بالمثل الذي يقول يستطيع ،، الخفاش ان يكون نسرا والظلمات نورا والقزم عملاقا، اما سر سلطة الفاسدين وانتشارهم فذلك امر اخر
تعليقات