الحكام والشعوب

استخدمت الأنظمة الحاكمة وسائل عدة لتغييب إرادة شعوبها الحرة ومكونات أمتها الحية فتارة استخدمت الإرهاب الجسدي بقواها الأمنية وتارة أخرى استخدمت الإرهاب الروحي بتجنيد علماء الدين فان لم ينفع أي من الأسلوبين السابقين لجأت إلى علاج ناجع مورس لعقود عدة وهو تكميم الأفواه بالسجن أو النفي أو استخدام الإرهاب النفسي بتفعيل الإغراءات المادية السخية خاصة وباستخدام ثروات باطن الارض وظاهرها لشراء الذمم وإفساد كل مصلح.

إن المكر والخداع الذي يمارسه ألنظام نجح وببراعة مذهلة في إفساد وتمييع الكثير من الحركات السياسية والشعبية المعارضة لتحويلها من معارضة فعلية حقيقية إلى معارضة صوتية بلا روح ولا هدف ولا انجاز على أرض الواقع وقد وصل به الأمر إلى توظيف هذه الحركات الإصلاحية لتخذيل أي تحرك تحرري واستغلال القوى السياسية في زرع بذرة الشك في قدرة المجتمع على التغيير من ناحية وشك المجتمع في مصداقية شخصياته ورموزه وتنظيماته من ناحية أخرى وهذا ما يسمى سياسيا بتكيف السلطة.









إذا نظرنا إلى الطابع العام والغالب لمؤهلات الحاكم في ظل حكم التغلُّب، فإنه يمكن القول بأن أهم مؤهلاته هي النجاح في استتباع الشعب والسيطرة عليه، وغالباً ما يتم ذلك عن طريق القيام بما يشبه عملية السطو المسلح على الوطن والمجتمع، فإن فشل أقيم عليه حد الحرابة أو أعدم ووصف بأنه من البغاة أو الخوارج أو العملاء والخونة، وإن نجح أصبح ولي الأمر وقائد كل شيء والآمر الناهي ومن يورث غنائم عملية السطو المسلح لأبنائه وأحفاده أو لأحد أفراد العصابة السياسية التي ينتمي إليها. هو من لا يُسأل عما يفعل ومن يصبح الحديث عنه أكثر رهبة عند عامة الناس من الحديث عن رب العالمين!!..

في حكم التغلُّب، يتحول السياسيون إلى ما يشبه الأوثان التي يخشاها الخاضعون لها، كخشيتهم لله أو أشد خشية!! يسيطر الحكام وأتباعهم على المال العام والإعلام والثقافة والمناصب والقضاء. يتم إدخال شؤون السياسة إلى عالم المحرمات والمحظورات. تُسخر وسائل الإعلام للنطق باسم الحكام وتمجيدهم والثناء عليهم. يتحول الناس إلى موالين يسألون الحاكم من فضله وإحسانه أو ساكتين تنتقص حقوقهم ويطالهم التهميش والتجاهل أو مارقين يحل عليهم غضب الحاكم أو ينالهم عقابه الأليم.

هنا توجد أعظم صور العبودية الجماعية القهرية. عبودية يصنعها الناس بمجرد التفريط في الدفاع عن حق الشعوب في اختيار حكامها.

وبالمقابل، فإن الإقرار بحق الناس في اختيار الحكام يؤدي عند تجذره إلى هدم هذه العبودية واقتلاعها من جذورها. يؤدي إلى تحول الحكام إلى بشر، كل همِّهم هو كسب رضا الناس والحصول على تأييدهم. يؤدي إلى زوال خشية الناس من الحكام لتحل محلها خشية الحكام من الناس!! يؤدي إلى إدخال شؤون السياسة إلى دائرة المباحات والمندوبات والواجبات. يؤدي إلى خضوع المال العام والثقافة والمناصب والقضاء والإعلام والتعليم والأمن والصحة والعلاقات الخارجية لرقابة الناس وتساؤلاتهم. يؤدي إلى انطلاق حرية التعبير وتعزيز روح المواطنة وظهور قدرات الأكفاء والموهوبين وتوفير إمكانات التصحيح والتطوير وكساد تجارة النفاق والارتزاق. يؤدي إلى تحويل الدور الجوهري لوسائل الإعلام من النطق باسم الحاكم وتمجيده والثناء عليه إلى نقده ومحاسبته وتصيُّد أخطائه.



ومع الأسف تساعد الشعوب على ترسيخ مفهوم الطغيان عند الطاغية المستبد عندما تغرق في مدحه والثناء عليه بما يقطم الظهر ويعين عليه شيطانه ونوازع نفسه الخبيثة، فيستطيل في أعراض الناس وأموالهم بطريقة زائدة عما كان يفعل، حيث يراهم يصفقون له كلما نهب واستبد وظلم، فيزيد استبداده، ويتغول على رعيته وشعبه، بل ويرى مصلحتهم في إذلالهم ونهبهم، وكلما أحكم قبضته عليهم شعر بمزيد من العظمة والغرور والعشق لنفسه، فيزداد حبه للمدح والثناء، ويُستفَزُّ جدًّا من التجاهل والنقد، بل يصبح الناقد الذي يرجو مصلحة بلاده عدوًّا لدودًا عميلاً، لا لشيء سوى لأنه ينتقد القائد الزعيم أو أحد مكونات منظومة حكمه، فتصاغ له عرائض الاتهام بالتآمر والعمالة، لا على الرئيس وإنما على الوطن ، فكأنما الرئيس هو الوطن والوطن هو الرئيس، وهذه الحالة من التماهي والتمازج يشعر بها غالبية القادة النرجسيين، فهم لا يفرقون بين الخاص والموضوعي، فيظنون كل صوت ناقد بوقًا يهدد أمن البلاد، لذا فإن المعتقلات والسجون في بلادنا تضج بالشرفاء من الادباء والشعراء والصحفيين والمتخصصين في فروع كثيرة من العلوم التجريبية والشرعية، ومن لم يتكرم عليه الزعيم بالسجن أو القتل فإنه مُنْـزَوٍ في طرف بعيد من أطراف البلاد، لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا.

إن الحكام النرجسيين لا يتصورون أن هناك أصلاً من يعارضهم أو يقول بخلاق قولهم أو يفعل نقيض فعلهم، فإذا نظر أحدهم لشعبه فكأنما ينظر في المرآة، لا يرى إلا نفسه، ولا يبصر إلا فِعله، فإذا ثار عليه الثائرون فإن نوازع الإنكار في داخله تتعاظم حتى تسيطر على وجدانه، حيث لا يصدق أن هناك من يثور على حكمه "العادل اللطيف الظريف"، فينكر ثم ينكر ثم ينكر، حتى يصدِّق نفسه ويصدقه مَنْ حوله، فيتهم الثائرين بالعمالة والخيانة، وبأنهم قلة مندسة، ويقتلهم ويفتك بهم، أما غالبية الشعب فإنه راضٍ بحكمه، سعيد بالخطوات الواسعة نحو التنمية التي تخطوها الدولة!! يخرج في تظاهرات تطالبه بالبقاء، وبمزيد من الحكم المنصف الحكيم.

لقد أصيب هؤلاء الحكام بمرض نفسي عضال عصيٍّ على العلاج، إنه داء الحكم، لقد أدمن طغاتنا حكمنا، ووصل بهم الحال إلى أن أحدهم لا يمكنه الاستغناء عن العرش طرفة عين، فثقافة "الرئيس السابق" لم يعتدها الحكام في بلادنا، لم يعتادوها لفساد أحوالهم وطغيان أفعالهم، فلو صلحوا لما خافوا، وإنما إدمانهم ذلك نتيجة للخوف من المساءلة، فهم يعلمون حجم إساءتهم لشعوبهم، وحجم سرقاتهم لخيرات بلادهم، وحجم انتهاكهم لأعراضهم ومقدراتهم، وحجم خيانتهم للأمة التي وثقت فيهم ووضعت الأمانة بين أيديهم، أو بالأحرى الأمانة التي انتزعوها من أيدي الأمة انتزاعًا، فكيف بعد كل هذا يسلِّم الحاكم ويرفع الراية البيضاء هكذا بيسر وسهولة؟! كيف يقدم نفسه على مذبح الشعوب؟! كيف يعرض نفسه لمقصلة الحقوق والحريات؟! بل كيف يستسلم من أول جولة وينزل عن مكانته التي رفعته فوق رقاب البشر بفعل الدساتير التي كانت تُحاك على قياسه؟! وذلك في غياب واضح للمبادئ والقيم الإنسانية فضلاً عن غيرها من المبادئ والقيم الإسلامية المنيرة؟! ضع نفسك مكانه، وقل لي بربك: ماذا تفعل لو كنت حاكمًا مستبدًّا ثار عليه شعبه

تعليقات