الولاء الوطني هو البرهان العملي لانتماء الإنسان لبلاده , ونموذجية واعية لعطائه تأصيلا معبرا بذلك عن الحب لها .. ورغبة حضارية سامية فى مراعاة حق بلاده عليه , وحق الآخرين معه مشاركة وتفاعلا بتعدد الآراء وتنوعها اجتهادا فى التماس السبيل الأمثل لخدمتها … وتجسيد المواطنة يظهر فى ثقافة الانتماء التضامنى بين أفراد المجتمع , وبما يخدم مفهوم العلاقة بين المواطن وبيئته وأمته ..
لقد كانت شريعة الناموس الطبيعى عند البشر قديما هى الحفاظ على حق البقاء وصون مملوكه مباشرة وبالقوة الذاتية للفرد , أو مؤيدا بجماعته التى تطورت مع الزمن إلى العشيرة, ثم تحولت مجموعة العشائر لتكوّ ن نسيجا اجتماعيا أكبر سمى بالقبيلة , ومنها ـ أى القبيلة ـ وفى ظل حمايتها له بدأ الفرد يتطامن أحيانا عن شيئ من غلوائه نزولا عند رأى ألأغلبية فى القبيلة , وبدأ يرضى بما يشير به عقلاؤها .. ولا يجد غضاضة فى التنازل عن جزء مما كان يتشبث به عندما يقتضى رأى الأغلبية الوصول إلى حلّ توافقى مع أطراف أخرى فى شأن ما.
ومع مرور الزمن وبظهور الحياة المدنية فى الدول والمجتمعات الحديثة , تبلورت تلك الأعراف المتوارثة فى صورة : تبيان لحقوق الناس الثابتة فى اختيار من يقودهم كيفا وحينا , لتحديد علاقة الحاكم بالمحكوم , وضمان حرية اعتقادهم ومراعاة خصوصياتهم وحرية تنقلهم واختيار من يمثلهم وانتقاء وسائل عيشهم وسمى هذا البيان بالدستور.
وفى هيئة : نصوص وضعية تنظم الحياة المدنية وفقا لثوابت رادعة تحددت تفصيلا وأوجبت مراعاتها , وتضمنت معاقبة من يتجاوزها سميت بالقانون .
فتنازل الفرد عن شريعة القانون الطبيعى إلى سلطة مركزية تعمل لصالح الناس جميعا لتنظم وترتقى بسبل حياتهم , و لتحل الحياة السياسية محل شريعة القانون الطبيعى .
فحق المواطن الدستورى مربوط وبشكل مباشر وتكاملى بانضباط دقيق بمراعاة تنفيذ القانون ليحد من جوره على الوطن أو مواطنيه , لأن طبيعة خلق الإنسان ينازع الهوى فيها عقله , فكان لابد من إيجاد الضوابط المنظمة ملازمة للاعتراف بدستورية حقوقه هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى فان الشراكة مع الآخرين تستلزم قبول رأيهم والتسليم بحقهم , وقبول الضمير بفكرة مشاركتهم العيش والمعايشة فى وطن واحد , يدافعون عنه جميعا , ويعملون فيه ولصالح تقدمه واجبا , ويتنعمون بخيراته عدالة , ويتناولون الأفكار استلهاما , ويتبادلون السلطة مناوبة , ويخضعون للقانون سواسية. فهذا هو الأساس الذى يبنى عليه مفهوم الولاء الوطني.
وكثيرا مايندهش العالم بحضارة الغرب دائما , ويرجعون الكثير من الفضل لمفكريه وفلاسفته فى إيجاد نظرية التعايش الجماعى المنظم ووضع الدساتير ,
فالمواطنة : بمعنى مشاركة … فإذا كان الولاء الوطنية هو الانتماء للوطن وحبه والحرص عليه , فإن المواطنة هى الممارسة العملية التطبيقية لمفهوم الوطنية .
والقصد من دعوة الناس إلى النظرة الأعم وللمصلحة العليا عن الأفق المحدود للقبيلة أو الإقليم لا يعنى تحريمها أو إبطالها دينيا أو فطريا باعتبار أن الدين لا يمنع فطرة الناس التى فطروا عليها , وإنما جاء ليهذبها ويضبط سلوكها . فالمواطنة كفلت للفرد حقوقا مقدسة لا تنقص قيمتها ولا تـمس فى جوهرها كحق مكتسب , وإنما وسعت دائرة الوفاق التعايشى بينه وبين الآخرين , وألزمته بواجبات ضرورية ومهام عملية يؤديها كالتزام منه مـنتظر , وأن يتسع أفق منظوره ليفسح للآخرين بجانبه مكانا , فتطبيق مفهوم المواطنة بين الناس بالمعنى الاجتماعى أو الولائى أو الحضارى هو ألا يقل التزام الفرد فى العطاء كواجب .. عن ملكه فى الوطن كحق, تحت أية ظروف وفى ظل أى مبرر .
وفى بلادنا وبفضل الله وبمدرار دماء أبنائنا الشهداء والجرحى فقد تحقق لنا النصر , وأذهب الله عنا الحزن , لنواجه الابتلاء مع انفسنا فى فتنة النصر .. ولتصبح المواطنة فينا على المحك التجريبى ,فقد نجحنا فى إثبات الحب والولاء للوطن , وبثمن غال , ولكن الأمر بات يختلف فى بعض المشاهد عندما نبداء بالتطبيق العملي للولاء الوطني كواجب لايتعلق بمواطن دون اخر , وهذا يستوجب منا ــ سواء أسرعنا فى استيعاب ذلك أم تباطأنا ــ ضرورة أن يسمع أحدنا الآخر , وأن يفسح الطريق له كى يمر , وأن يتلطف فى محادثته , وأن لا يمارى فى مناقشته , وأن لا تقل النظرة إليه عن حق المسئولية فى شراكة المواطنة , فقوله منك مسموع , وعقلك لحديثه مستقبل , و يقابل اجتهاده حسن نواياك .. وبعد كل هذا : فلك الحق فى أن تقبل أولا تقبل ما يطرحه , لكن مكمن الداء فى أن لا يسمع صوته أو أن يصادر كلامه ورأيه , وأن تهضم اجتهاداته .. فتلك جريمة اغتيال صريحة لحق المواطنة والولاء الوطني .
لقد احتفلنا عن الانتخابات التي احدى اهم محطات ثورة التغيير .. بعد أن ضحى من ضحى , وشارك وتقاعس منا من تقاعس , وأخطأ وأصاب منا من أصاب , ومر عام كامل لم تذهب فيه الغالبية العظمى من الناس إلى أعمالهم , ولم تـسدّد فيه عوائد إيرادات المرافق العامة , ولم تتعاف فيه حركة التجارة ولا باقى المهن الأخرى فى البلاد من كافة مناحى الحياة . وآن الأوان لنتذكر واجباتنا الوطنية وإذكاء إحساس المواطنة فينا.
لقد أصبح مفهوم الولاء الوطني لدينا فى حاجة إلى تصحيح …
فمئات آلاف المستخدمين فى البلد ظلوا طيلة العام الماضى فى بيوتهم دون المساهمة بأداء واجباتهم ( باستثناء الثوار الذى شاركوا فى عملية التغيير ) فى بلد يحتاج إلى بناء كامل وتخطيط منهجى شامل , وإلى صيانة ما تبقى على الأرض من منشآت لم تطالها معاول الهدم والدمار .. وكأننا ننتظر جندا تهبط من السماء لتفتح لنا مقار أعمالنا فتعيد ترتيبها وتجهيزها وتصون فيها ما يحتاج للصيانه ثم تقول تفضلوا متى ما تشاؤون لمباشرة أعمالكم !! , ومع هذا تزحف الآلاف فى نهاية كل شهر لقبض المرتبات , والويل والثبور لإدارة البنك الذي لا توجد لديه السيولة الكافية لسداد كامل المرتب .
إن حملة التشهير والبحث عن مثالب الآخرين التى جوبه بها كل من تقدم لأداء خدمة , أوشارك بدور ما خلال الأزمة , جعلت الكثيرين من المؤهلين القادرين على المشاركة يحجمون .. ويربؤوا بأنفسهم عن المهاترات أو أن تلوكهم الألسن .
فلا تـبنى أوطان بهذه الممارسات , ولا ينمو شعور المواطنة فى ضمير يحوى مثل هذه الثقافات …
آن الأوان لأن نرجع للعقل المجرد عن الأهواء وسطحيات التفكير .. وأن نمقت التلذذ بالاستيلاء على ما تطاله أيدينا من مقدرات المجتمع .
آن الأوان لنراعى أن ما لأخينا المواطن الآخر محرم علينا عرضه ودمه وماله .
آن الأوان لنصحح مفاهيم عصبية جاهلية قبلية وجهوية ومصلحية تجذرت طويلا فى مجتمعنا وأفسدت الكثير من الناس إلا ما رحم ربى … كما آن الأوان لنقدم من يستحق على من لا يستحق وألا نبخس الناس حقوقهم .
وأخير ,, آن الأوان لكى نبحث ونتحرى ونجتهد ونسأل ونمحص ونتأكد ممن يصلح لتولى أمورنا وخدمة بلادنا , ممن نظنه يتقى الله فينا وفى مصائر أولادنا , بصرف النظر عن انتماءات القبيلة والجهوية والحزبية والتنظيمية والمذهبية , من تـلزمه المواطنة بحسن خدمتنا , وتلزمنا نحن بحسن انتقائه بدون أن نخضعه لموازنات وتوافقات القبيلة أو الجهة او التنظيم السياسي.
فالنجاح فينا للأصلح وليس لمن هو منا أقرب , والولاء الوطني انتهاج السلوك المعبر عن حب الوطن وليس مجرد ادعاء أجوف بدون وعى للمفهوم الصحيح .
الولاء الوطني :حضارة تحرر الناس من ظلمات غرائزهم لتهذب أساليب حياتهم والتعايش فيما بينهم لبقاء الأوطان ..وليس مجرد شعار للصوص والعابثين بخيرات الشعوب وكثير من المفسدين الذين شوهوا قيمته ..
ومن ابتغى غير ذلك فليقبع فى كهوف ما قبل التاريخ محاولا بدء دورته الحياتية من جديد .. لكن هذه المرة لن ينتظره الزمن فأهله متسابقون .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات