الناس بالنسبة إلى الثبات على صنفين: الأول ثابت كالطود لا تزعزعه العواصف ولا تضعضعه القواصف، إن اقتنع بمبدأ أو بعقيدة أو انحاز إلى حزب أو مذهب فإنه يعض عليه بالنواجذ ويثبت عليه ثبات الرواسي، ويتفانى فيه بكل ما أوتيه من قوة، مهما كلفه ذلك من الضحايا الغالية، ويتجلى ثباته في جميع أحواله فتراه ثابت الجنان ثابت اللسان، ثابت القدم، ثابت العمل، غير هلع و لا متلجلج ولا مضطرب، ولا مرتبك ولو أحدقت به الأخطار و الأهوال.
و قد يبلغ به الثبات أحيانا إلى الغلو والتطرف وأحيانا إلى العشق والوله ، ولا يبالي في ذلك بما يلاقيه من قوارص اللوم والعتاب، ولا تثنيه عنه قوة المعارضة، ولا تؤثر فيهالمكائد والضلالات والاقاويل والاحابيل ، بل لا يزداد نحو ذلك إلا تعصبا وتعلقا، وهذا دليل على كمال الصدق، والإخلاص، ومتانة الأخلاق، وهو محمود جدا مالم يخرج به إلى حد الجمود والثقة العمياء، والتعصب إلى الباطل.
و هذا الصنف هو نواة الإصلاح وعمدة المصلحين و العدة التي يعول عليها الثوار ، و الكهف الذي يفزع إليه المناضلوم الشرفاء، .
اما الصنف الثاني: فهو متذبذب العقيدة، سقيم الوجدان، متضعضع الفكر، يعتنق اليوم عقيدة وينسلخ منها غدا، يستحسن اليوم مبدأ ويستقبحه غدا، يدخل اليوم في مشروع و يخرج منه غدا، يصادق اليوم صالح ويعاديه غدا إلخ.. كل هذا لا لسبب حادث وإنما لوهن في نفسه و ضعف في قلبه فتراه مدة عمره مترددا متذبذبا لا مبدأ له ولا عقيدة ولا رأي ولا مذهب و لا صديق و لا مشروعا ثابتا، وربما تحدثه نفسه أن يدخل في معامع الأعمال مع ااثوار و المناضلين و لكن سرعان ما يجد الطريقة وعرة العقبة و الصحراءمترامية الأطراف، ، فيستصعب مجارة الحال فيها ، فيرجع القهقرى نادما على ما فرط منه من الدخول فيما هو خارج عن طوقه واستعداده، و قد لا يكتفي بذلك بل يملأ الجو صراخا و صخبا وضجيجا ويتذرع بالاخرين ويلقي عليهم اللوم والسبب ، ويبث فيهم الياس والقنوط و يثبط عزيمتهم، و هذه نهاية الخسة و الدناءة إذ لم يحرم الأمة منفعة ثباته و مثابرته فقط و لكنه لفرط تذبذبه و تردده يريد أن يبقى الثابتون مثله وحرمان الشعب من ثمرات اصرارهم و ثباتهم.
وفي كل شعب وفي كل أمة يوجد أصحاب المبادئ الصماء الذين تتزحزح الجبال ولا يتزحزحون هم عن مبادئهم، وسواء أكانت هي في الخير أم في الشر، في الإصلاح أم في الإفساد. وعلى هؤلاء دون غيرهم تدور قطب رحى الحروب والمعارك السياسية والوطنية و في أنحاء العالم، وهم قلب الشعوب ودماغها فـمتى كان القلب صحيحا والدماغ سالما سيقت الشعوب إلى حيث العز والمجد والــشرف، و متى كان القلب مريضا والدماغ مسوسا سيقت إلى هوة الهلكة و الخسار.
وبين هؤلاء يوجد جمهور كبير ذوي قلوب ضعيفة كقلوب الطير ونفوس رخوة كالعجين، فلا ثبات لهم ولا مبدأ كالمـاء لا لون له ولكنه يتلون بلون الإناء، فمتى جعل في إناء أخضر يرى الماء فيه أخضر، ومتى جعل في إناء أزرق تحول في عيونه أزرق وهكذا. وكذلك أولئك لا خطـة لهـم يترسمونها ولا مطمح لهم عاما يسيرون إليه، ولكنهم أبناء وقتهم مرة مع صالح وأخرى مـع فاسد. يصبحون مع فاسد ولمجرد ما تحيق حوله بعض الأخطار ينحازون في الزوال لجانب صالح ، وإن لاحت لهم سحابة مـن الخطر تحوم فوقه عشـية انفضوا من حوله وتجمهروا في المساء بجانب اخر ، لا يسكن لهم بال ولا يقر لهم قرار، فرائصهم ترتعد وأعصابهم تضطرب وقلوبهم ترتجف ونفوسهم تذوب شعاعا لمجرد ما يلوح لهم شبح من الخطر، يحلفون لك بكل محرجة من الإيمان أنهم لا يزالون معك في السراء والضراء فيبرون يمينهم مادامت السراء ممدودة الرواق، فإذا جد الجد ورفع الستار عن الدور الأول من رواية الخطر، تفرقواعنك وواجهوك من بعيد وضحكوا من قلة عقـلك ومخاطرتك و مجالدتك، و إذا ما رأوك حزت النصر وظفرت بالمطلوب رجعوا إليك واحدا بعد واحد على قدر هروبهم منك، وهم معك مادامت راية النصر تخفق فوق رأسك، وإذا تقلص ظلها ونكست تراجعوا عنك وأصـبحوا في جانب خصمك، وهكذا دأبهم و ديدنهم ما دامواعلى قيد الحياة.
والغالب على هؤلاء كشف الأسرار ونقل الأخبار من هنا وهناك استرضاء للجميع وخوفا من الجميع، وشدة الشغف بالسكون والركون إلى السلم ولو مع إقرار الباطل وخذلان الحق، ولا يهمهم انتصر الباطل أم خذل الحق، ولكن يهمهم السكون والسلم فقط على أي حال كان. ومتى رأوا الحق والباطل يتصارعان ألبسوا صراعهما بلباس الفتنة والفساد والتشويش و كالوه بكيل واحد ووجهوا سهام اللوم والتعنيف إليهما معا، لأنهم يرون الواجب هو السكون والركون، ومتى ثارت زوبعة الخصام بينهما فلا خير في الجميع ولا يميزون بين الحق والباطل، فينصروا الأول ويجهزوا على الثاني ضرورة أنهم يرون السكون والركود قبل كل شيء، ويرون وجوب الولاء والصفاء بينهما. و نحن لم ندر ولم نسمع في تاريخ العالم قديمه وحديثه متى اجتمع الحق والباطل في غمد واحد، ومتى انعقد الصلح بينهما في الدنيا وإنما تلك أمنية منهم سداها ضعف القلب ولحمتها رخاوة النفس.
إن هؤلاء غالبا ما يكونون في مؤخرة الجيوش عند الزحف، وفي مقدمتهم عند الخلف وفي صفوفهم تتفتح الثغرات للخصم المهاجم، وعلى رؤوسهم ينهار بنيان الحصون، وهم عيون كل قائد وأذن كل جيش، ومن المستحيل أن ينعقد بهؤلاء أمر وأن يؤسس بهم مشروع، إذ الأمور تنعقد بالكتل الصلبة المتماسكة الأجزاء لا بالذرات الرخوة المتناثرة، والمشاريع الكبرى إنما تؤسس على الصخور العظيمة الثابتة لا على الأحجار الهشة القلقة و الحجر المتقلب لا يثبت عليه البنيان.
إن أمثال هؤلاء لا يعول عليهم في نجاح الثورات، ولا يعتمد عليهم في شيء يستوجب الجد والمثابرة والثبات، ولا ينبغي للعاقل أن يفرح لإقبالهم أو يحزن لإدبارهم أو أن يطرب لهتافهم أو يتـذمر من منقلبهم ، فهم فـي جميع الأحوال سواء ماداموا في حال الضعف القلبي والوهن النفسي لا يمكن التعويل عليهم في شيء معها.
نعم يمكن للشاطر أن يستخدمهم ويستفيد منهم في مصالح عدة، ولكن لا يمكن أن يبني عليهم قصور آماله أو يعتد بهم في ثورته، وإنما يمكنه أن يبلغ ذلك بالرجال الصابرين الثابتين أصحاب المبادئ الراسخةو الكلمة الواحدة. فإن انتصرت ثورة فبهؤلاء وإن نبت نجاح فبهؤلاء وإن اعتز شعب فبهؤلاء وإن حرر شعب فبهؤلاء. فمن أراد تكوين إحياء شعب فليبدأ بإعداد العدة وهي هؤلاء. أما إذا غفل عن هذا وأسس عمله على كواهل أولئك الضعفاء فقد بناه على أساس من الرماد ، فلمجرد ما تهـب ريح عاصفة تتناثر ذرات الرماد في الفضاء، فينهار بنيانه ويصير عاليه سافله.
فمن كان يؤلمه أن يحشر بين هؤلاء الواهنين الضعفاء وتؤلمه لذعة الامتهان و الازدراء فما عليه إلا أن يتجلد ويصبر قليلا على لذعات الأهوال والخطوب كغيره، و يتزين بزي الصابرين الثابتين فلا يلبث قليلا حتى يطرز صدره بنيشان النصر والمجد والثبات ويصبح في الصفوف الأمامية بين الرجال الكاملين.
تعليقات