--
اصبحنا نخاف على الثورة وعلى مستقبل تضحيات الشعب ، ومصادر الخوف هذا ومبرراته ودواعيه مختلفة ومتنوعة ومشروعة. فنحن أينما ادرنا البصر،وجدنا أمامنا ما يخشى منه على الثورة والمستقبل: المكائد، والمؤامرات، والتناقضات، والأخطاء، والمشاريع الصغيرة وما شاكل. مَنْ ذا الذي يتجاهل أن قوى الثورة المضادة تعيد تنظيم صفوف بقاياها لتعود إلى الغد من النوافذ بعد أن قرر الشعب ان تخرج من الباب، وتنفخ في جمر الغضب الشعبي لإضعاف قوى الثورة؟! مَن ذا الذي يُنكر أن القوى الدولية والاقليمية ايضاالتي أصابها في مقتل سقوط أنظمة عملائها تدخل، اليوم، على خط الأحداث كي تحفظ بقاء من تشاء، وكي تسقط من تشاء راكبة موجة المطالب الديمقراطية والمدنية للشعب؟!
غير أن الخوف الذي كان شريعة حاكمة تفرض على شعوبنا أحكام الذلة والصغار، وتكرس فينا حكم الطغاة والبغاة والغزاة، ما لبث أن ركب نفوس من أطلقوه في مجتمعاتنا وبمفعوله حكمونا، فلقد ارتعدت فرائص من كان الشرر يتطاير من عيونهم حتى بات احتشاد مجموعة من الطلبة في فناء مدرسي او جامعي يخيفهم فيحسبون له الحساب. وها هم يقفون اليوم مشدوهين أمام مشهد المسيرات وهي تخترق الشوارع والساحات وتواجه الرصاص بالصدور العارية وكأنهم يكتشفون، لأول مرة في حياتهم، أنهم أمام شعب حقيقي لا أمام رعية من رعاع! لم يألفوا أنْ يروا الناس يحتشدون او يقومون بمسيرات كهذه إلا لاستقبالهم في المواكب الرسمية أو لتجديد مبايعتهم في استفتاءاتهم المدفوعة . ثم إنهم لم يألفوا أن تستمر الحشود لأشهر من دون أن يدب في الناس تعب أو أن يتسرب إلى نفوسهم يأس. ثم ها هم يسمعون الملايين تقول: "الشعب يريد..." فيعجبون كيف أصبح هذا الشعب يريد، ومتى ولدت في نفسه إرادة وهم روضوه طويلا على أن يقبل، فقط، ما يريدونه هم! ثم ها هو يريد "إسقاط النظام"، يقول ذلك ولا يمزح، يفعله بسخاء من دمه. أليس هذا أكثر ما يخيف؟!
من ذا الذي يستصغر شأن التناقضات المستفحلة بين قوى الثورة على محاور الاشتغال السياسي في الحاضر والمستقبل: الموقف الشعبي من االمبادرة الخليجية ، الحسم عن طريق الفعل الثوري ,محاكمة الرئيس ورموز نظامه .او منحهم الحصانة..دور احزاب المعارضة في الثورة ؟! ثم من ذا الذي يستهين باحتمال حرف هذه الثورة عن مسارها السلمي وجرها إلى العنف بهذه الوسيلة او تلك؟!
نعم، ثمة ما يخاف عليه مما يخاف منه في هذه اللحظة الحرجة من اشتباك إرادة التغيير مع نقائضها في الدخل والخارج. واليقظة والحذر لا يكفيان في مثل هذه الحال إن لم تتسلح جماهير التغيير برؤية سياسية رشيدة إلى كل جوانب المرحلة وتناقضاتها وتحدياتها.
الأعداد المرتفعة للقتلى في مواجهات صنعاء بين الشباب الغاضبين وبلاطجة النظام ومسلحيه وقوى الأمن والحرس الجمهوري في الايام الاخيرة باتت تثير الحيرة في نفس كل مواطن او مراقب للاحداث، فمن الصعب على أي كان أن يصدق بأن التصعيد الذي حدث في تظاهرات الشباب خلال هذا الاسبوع بالعاصمة على وجه التحديد كان عفويا وأن لا وجود لأياد داخلية اوخارجية او كلاهماتريد أن توتر الأوضاع بالتزامن مع انعقاد جلسات مجلس الامن للنظر في موضوع اليمن .
وبالتوازي مع ذلك ومن قبل ذلك بكثير يقوم الإعلام الذي اخترقه المال الخارجي بشكل فاضح بشيطنة التيارات االحزبية والسياسية وتخويف المواطن من مشاريعها على مستقبله واستقراره، والانتصار للقوى التي تتبنى خيارات الحسم الثوري ورفض المبادرة الخليجية ، والغاية في حقيقتها هي خلق شروط نفسية للصدام الدموي بين مختلف القوى الوطنية وقطع الطريق امام مجلس الامن لاتخاذ قرارمساند لمطالب الشعب بتنفيذ المبادرة الخليجية ومن ثمة إفراغ الثورة من مضمونها الأساسي السلمي وحرف مسارهانحو الحرب الاهلية كحل ومخرج للنظام وليس للشعب..
وعلينا، هنا، أن نقول بمنتهى الصراحة والصدق إن من يتناول الأوضاع في اليمن، اليوم، بالتحليل أو الاستشراف، لا بد وان يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التفكير في تنفيذالمبادرة الخليجية كتسوية وطنية ممكنة لتحقيق التغييروالإصلاح الديمقراطي المتدرج، على نحو يستجيب لمطالب الشعب وقواه المدنية ويحفظ لليمن وحدتها الجغرافية والجماهيرية ودورها السياسي والاقليمي والدولي ، وإما البدء في فرض حل جذري للحالة القائمة فيه ,ولن يتم بغير المزيد من الدماء كما لن يكسبه أحد في المطاف الأخير حتى لا نقول إن اليمن ستخسر فيه من استقرارها، وربما من وحدتها وسيادتها، لا قدر الله .يحمل مصطلح التسوية السلمية معنى محاولة التوصل الى حل وسط بين طرفين أو أكثر حول مطالب معينة لهم وتقريب وجهات النظر بينهم لتحقيقها بالطرق السلمية ، وعادة ما تتم بقبول الأطراف لنتيجة يوقعون عليها، ويلتزمون بتنفيذها، بناء على مبادرة او اتفاقية محددة تنص على ذلك. وليس شرطاً أن تكون التسوية السلمية "عادلة" ، إذ إنها تعكس في كثير من الأحيان موازين القوى، وحالات الانتصار والهزيمة، والضغوط الداخلية والخارجية. كما أن التسوية السلمية ليست بالضرورة حلاًّ دائماً، ولكنها تكون في اكثر الحالات مخرجا من مأزق ينذر بكارثة او ازمة تقود الى محرقة ... ان الذين يدافعون او يتبنون الحل الثوري لاسقاط النظام كثيرون، وللاسف معظمهم عاطفيون او مغرر بهم . وهؤلاء فريقان: فريق صغير يريده حلا عسكريا لتصفية الساحات في البلد، وفريق أكبر يريده إسقاطا للنظام وإنهاء لعهده . يعتقد الأول أن الحل العسكري يرد على مؤامرة خارجية تستهدف البلاد وتَركب موجة المطالب الشعبية لتأخذها إلى إنجاز ما تبتغيه من أهداف . التنازل أمام الشارع والمعارضة، في حسبانه، تنازل أمام من يحرك الأحداث من خارج وتسهيل للمؤامرة . ويعتقد الثاني أن إسقاط النظام هو السبيل الوحيد إلى الخلاص لأن التراجع لم يعد ممكنا، ولأن الضغط الدولي والإقليمي عليه يشتد . النظام لا يريد إصلاحا،، والبقاء تحت سقف الإصلاح انتحار بعد كل تلك التضحيات التي قدمت .
الداعيان بدعوة الحل الثوري، من الطرفين، لا يقترحان على البلاد سوى المصير الغامض والراهن المثقل بالجراحات، إذ ليس في وسع القبضة االعسكرية أن تعيد جحافل الشباب إلى بيت الطاعة، وستكلفها المحاولة المستحيلة لذلك أنهارا من الدماء، ونزفا سياسيا وأخلاقيا في صورة اليمن عند شعبها والعرب والبشر أجمعين . والخشية أن المزيد من القمع سيولد المزيد من العنف والتطرف، ويترك الأزمة الداخلية مفتوحة في الشارع إلى ما شاء الله . كيف يمكن للدولة والمجتمع أن يعيشا في مناخ هذا المشهد الدموي اليومي الطويل؟ في المقابل، لن تكون “استراتيجية” إسقاط النظام نزهة سياسية في شوارع صنعاء! وقد جرب حملة هذا الشعار تنفيذ خيارهم خلال كل هذه الفترة، ماذا حصل؟ هل سقط النظام؟هل تبخرت قاعدته الاجتماعية؟ هل فَقد السيطرة على المدن ومراكز الدولة؟ هل فر أركانه من البلد؟ لم يحصل من ذلك شيء . ينبغي قراءة معنى ذلك عند من حملوا الشعار وفرضوا على الحراك في الساحات أن يأخذ وجهة وحيدة! أما التعويل على إسقاطه بالمواجهة او الرهان بالقوات العسكرية التي انشقت، ففي ذلك منتهى البؤس الثوري، وهو خيار غير ديمقراطي ولا يشرف من يعول عليه أو يسير في دهاليزه الكالحة!
لا بد من حل سياسي ممكن يقع بين مستحيلين أو قل بين إمكانين انتحاريين . والحل هذا مبناه على التنازل المتبادل بين الفريقين السياسيين عن التمسك بالخيارات القصوى . والتنازل المتبادل يفرضه ميزان القوى في المجتمع اليمني اليوم بعد هذه الجولة المديدة من المواجهات التي زادت على الثمانية اشهر من دون حسم، ورسمت معطياتها الحقيقة المزدوجة الآتية: ليس في وسع النظام إنهاء الاعتصامات وبالذات حين تكون سلمية 100% وإخماد مطالب التغيير الديمقراطي، وليس في وسع الاعتصامات وبالذات حين لاتكون سلمية - وبإمكاناتها الذاتية - إسقاط النظام . وفي مثل هذه الحال من توازن القوة، ليس من حل إلا عن طريق الحلول السياسيةالتي تقود إلى تحقيق تغيير ديمقراطي متدرج بشراكة متوازنة بين النظام والمعارضة . أدوات مثل هذه الشراكة معروفة: الحوار الوطني، الشراكة في وضع أسس النظام الديمقراطي البديل، الشراكة في حكم البلاد وفي إعادة توزيع السلطة، وصولا إلى انتخابات ديمقراطية حرة وتعددية، وإلى تبادل سلمي على السلطة . الفرصة مازالت متاحة، والتباطؤ في الإقدام على هذا الخيار سيكون غالي الكلفة والثمن .
يخطئ النظام إن هو أساء قراءة قرار الفيتو الروسي في مجلس الأمن، وركن إلى الظن بأنه يوفر لها حزام أمان، لأن حزام أمانها الوحيد هو ترميم شروخ شرعيته الداخلية المتصدعة بالتجاوب مع مطالب التغيير . وتخطئ المعارضة إن هي انتشت او راهنت على دعم اقلمي او دولي لمطالب التغيير الديمقراطي اذا ثبت له انها كانت سببا في تعطيل العمل بالخيار السياسي المتمثل في المبادرة الخليجية ،كما يخطئ الشعب ايضا اذا فكر في تجاوز الشرعية الدولية والمبادرات السياسية والاقليمية التي يؤيدونها.
إن أقصر طريق كي يجد النظام نفسه بين مطرقة العنف الداخلي وسندان “الحماية الدولية” هو أن يمعن في رفض المبادرة الخليجية، وأن يتجاهل مطالب الشعب السياسية المشروعة، ويتجاهل صوت المعارضة الوطنية الديمقراطية في الداخل، وخاصة بعد أن وفرت لنفسها عنوانا سياسيا . ولعلها الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان . . . على الجميع .
تعليقات